الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} أَنَّهُمْ طَلَبُوا نِعَالًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ». .المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}: وَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ فَكَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِبَقَائِهِمْ بَعْدَهُ، كَأَبِي حَثْمَةَ وَغَيْرِهِ، بِإِرَادَتِهِمْ الرُّجُوعَ مِنْ الطَّرِيقِ حِينَ أَصَابَهُمْ الْجَهْدُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ الْعَطَشُ، حَتَّى نَحَرُوا إبِلَهُمْ، وَعَصَرُوا كُرُوشَهَا، فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ، فَنَزَلَ الْمَطَرُ؛ وَلِهَذَا جَازَ لِلْإِمَامِ وَهِيَ: .الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: [في أن الإذن يكون بظاهر الحال]: .قال السمرقندي: ثم قال: {والمهاجرين والانصار}، يعني: تجاوز عنهم ذنوبهم، لما أصابهم من الشدة في ذلك الطريق. ثم نعتهم فقال: {الذين اتبعوه في سَاعَةِ العسرة}، يعني: وقت الشدة في غزوة تبوك كانت لهم العسرة في أربعة أشياء عسرة النفقة والركوب والحر والخوف {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ}، يعني: تميل قلوب طائفة منهم عن الخروج إلى الغزو، ويقال: من بعد ما كادوا أن يرجعوا من غزوتهم من الشدة. ويقال: هم قوم تخلفوا عنه، ثم خرجوا فأدركوه في الطريق. {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}، يعني: تجاوز عنهم. {إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ}، حين تاب عليهم. قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص {يَزِيغُ قُلُوبُ} بالياء بلفظ المذكر، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث. والتأنيث إذا لم يكن خفيفًا، جاز التذكير والتأنيث، لأن الفعل مقدم فيجوز التذكير والتأنيث. اهـ. .قال الثعلبي: قال ابن عباس: ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا. واختلفوا في معنى التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أهل التفسير: بإذنه للمنافقين في التخلف عنهم، وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام ما كان هو صنف توبتهم ذكر معهم كقوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] ونحوه {والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها. قال جابر: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء. قال الحسن: كان الناس من المسلمين يخرجون على بعير يعقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه، كذلك كان زادهم التمر المسوس والشعير والأهالة المنتنة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلاّ التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من الماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلاّ النواة فمضوا في قيض شديد ورسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقتهم ويقينهم. وقال ابن عباس: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ما في شأن العسرة؟ فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيض شديد فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطش حتى قلنا أن رقابنا ستقطع، حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أنّ الرجل سينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله: إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا فادع لنا، قال: «تحب ذلك»؟ قال: نعم، فرفع يديه ولم يرجع بها حتى أظلت السماء بسحاب ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ} تميل {قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} لعظم البلاء، وقرأ العامة: تزاغ، بالتاء ودليله قراءة عبد الله قال: (زغيّهم)، قراءة حمزة والأعمش والجحدري والعباس بن زيد الثقفي بالياء. قال الأعمش: قرأتها بالياء في نية التأخير وفيه ضمير فاعل {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. اهـ. .قال الماوردي: هي غزوة تبوك قِبل الشام، كانوا في عسرة من الظهر، كان الرجلان والثلاثة على بعير وفي عسرة من الزاد، قال قتادة حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها أحدهم ثم يشرب عليها من الماء، ثم يمصها الآخر، وفي عسرة من الماء، وكانوا في لهبان الحر وشدته. قال عبد الله بن محمد بن عقيل: وأصابهم يومًا عطش شديد فجعلوا ينحرون إبلهم ويعصرون أكراشها فيشربون ماءها، قال عمر بن الخطاب فأمطر الله السماء بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فغشينا. وفي هذه التوبة من الله على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار وجهان محتملان: أحدهما: استنقاذهم من شدة العسر. والثاني: أنها خلاصهم من نكاية العدوّ. وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحالة الأولى. {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: تتلف بالجهد والشدة. والثاني: تعدِل عن الحق في المتابعة والنصرة، قاله ابن عباس. {ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وهذه التوبة غير الأولى، وفيها قولان: أحدهما: أن التوبة الأولى في الذهاب، والتوبة الثانية في الرجوع. والقول الثاني: أن الأولى في السفر، والثانية بعد العودة إلى المدينة. فإن قيل بالأول، أن التوبة الثانية في الرجوع، احتملت وجهين: أحدهما: أنها الإذن لهم بالرجوع إلى المدينة. الثاني: أنها بالمعونة لهم في إمطار السماء عليهم حتى حيوا، وتكون التوبة على هذين الوجهين عامة. وإن قيل إن التوبة الثانية بعد عودهم إلى المدينة احتملت وجهين: أحدهما: أنها العفو عنهم من ممالأة من تخلف عن الخروج معهم. الثاني: غفران ما همَّ به فريق منهم من العدول عن الحق، وتكون التوبة على هذين الوجهين خاصة. اهـ. .قال ابن عطية: التوبة من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون في الأكثر رجوعًا من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله، وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا، و{اتبعوه} معناه: دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وقوله: {في ساعة العسرة}، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلَّ من الزمن كالقطعة من النهار. ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية» الحديث، فهي هنا بتجوز، ويمكن أن يريد بقوله: {في ساعة العسرة} الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله، وترتبط النية، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة عسرة و{العسرة} الشدة وضيق الحال والعدم، ومنه قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة} [البقرة: 280] وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلب الدنانير بيده وقال: «وما على عثمان ما عمل بعد هذا»، وجاء أيضًا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر، وقال مجاهد وقتادة: إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر، وحينئذ قال رجل من المنافقين: وهل هذه إلا سحابة مرت، وكانت الغزوة في شدة الحر، وكان الناس كثيرًا، فقل الظهر فجاءتهم العسرة من جهات، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوهما، وانصرف وأما الزيغ الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه، فقيل همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة، قاله الحسن، وقيل زيغها إنما بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود، وقرأ جمهور الناس وأبو بكر عن عاصم {تزيغ} بالتاء من فوق على لفظ القلوب. وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الدال في التاء، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم والأعمش والجحدري {يزيغ} بالياء على معنى جمع القلوب، وقرأ ابن مسعود {من بعد ما زاغت قلوب فريق} وقرأ أبي بن كعب {من بعد ما كادت تزيغ} وأما كان فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء أولها وأقواها القصة والشأن هذا مذهب سيبويه، وترتفع القلوبُ على هذا بـ {تزيغ} والثاني أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولًا، ويقدر ذلك القوم فكأنه قال من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوبهم فريق منهم، والثالث أن يرتفع بها القلوب ويكون في قوله: {تزيغ} ضمير القلوب، وجاز ذلك تشبيهًا بكان في قوله: {وكان حقًا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47] وأيضًا فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير، وشبهت {كاد} بكان للزوم الخبر لها، قال أبو علي ولا يجوز ذلك في عسى. ثم أخبر عز وجل أنه تاب أيضًا على هذا الفريق وراجع به، وأنس بإعلامه للأمة بأنه {رؤوف رحيم} والثلاثة هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري ويقال ابن ربيعة ويقال ابن ربعي، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير، فلذلك اختصرنا سوقه، وهم الذين تقدم فيهم {وآخرون مرجون} [الآية: 106]. اهـ. .قال ابن الجوزي: قال المفسرون: تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلُّف. وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سببَ توبة التائبين، ذُكر معهم، كقوله: {فإنَّ لله خُمُسَهُ وللرسول} [الأنفال: 41]. قوله تعالى: {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} قال الزجاج: هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك، والمراد بساعة العسرة: وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل الزمان، وكان في ذلك الوقت حرٌّ شديدٌ، والقوم في ضيقة شديدة، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا في فقر، فربما اقتسم التمرة اثنان، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر. وقيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عوَّدك في الدعاء خيرًا، فادع لنا، قال: «تحب ذلك»؟ قال: نعم. فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر. قوله تعالى: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: {كاد يزيغ} بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: تميل إلى التخلف عنه، وهم ناس من المسلمين هَمُّوا بذلك، ثم لحقوه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها، ولم تَزِغ عن الإيمان، قاله الزجاج. والثالث: أن القلوب كادت تزيغ تلفًا بالجهد والشدة، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {ثم تاب عليهم} كرر ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذِكر التوبة فضلًا منه، ثم ذكر ذنبه، ثم أعاد ذِكر التوبة. اهـ.
|